الثلاثاء، يوم مشئوم بالنسبة لتلاميذ المسيد، يترك في فمي مذاقا من المرارة، كانت كل أيام الثلاثاء لها لون الرماد بالنسبة لي. كان الجو باردا، كانت ليلتي قد امتلأت بالكوابيس. كانت نساء شعثاوات تهددنني بفقء عيني، كن يمطرنني بأبشع الشتائم. أحيانا، كانت واحدة تلقي بي من النافذة و أسقط في الفراغ ببطء. كنت أصرخ، حطت يد ناعمة جدا على جبيني. في الصباح، ذهبت إلى المسيد كما هي عادتي، كانت للفقيه نظرته المألوفة ككل أيام الثلاثاء. لم تكن عيناه نفيذتين لأية شفقة. تناولت لوحي و بدأت بتلاوة الآيتين أو الثلاثة التي كانت مكتوبة فيه. في سن السادسة، كان لدي وعي مسبق بقساوة العالم و بضعفي، كنت أعرف الخوف، كنت أعرف الألم البدني الذي تسببه عصا السفرجل. كان جسمي الصغير يرتجف داخل ملابسي الخفيفة جدا. كنت أعتبر مسبقا المساء كوقت مخصص للمراجعة. كان يجب علي حسب العادة، أن أتلو بعض الأحزاب من القرآن التي حفظتها منذ بداية الموسم الدراسي. في وقت الغداء، أشار المعلم إلي بالرحيل. علقت لوحي، لبست بلغتي التي كانت تنتظرني عند باب المسيد و عبرت الشارع. استقبلتني أمي ببرودة. كانت تعاني من شقيقة فظيعة. لتسكين الألم، كان صدغاها مغطيين بدوائر من ورق أزرق مطلي بوفرة بصمغ الدقيق. كان الغداء مرتجلا، و بدأ المرجل يصفر بصوت ضعيف على الموقد. أتت لزيارتنا لالة عيشة، جارة قديمة، استقبلتها أمي و هي تشتكي من آلامها المادية و المعنوية. كانت تتكلم بصوت النقاهة الضعيف، تطيل في وصف ذلك الجزء من الجسم، تمسك بعنف رأسها المحزوم بمنديل بكلتا يديها. تملقتها لالة عيشة بمختلف أنواع النصائح، وصفت لها فقيها كانت تعويذاته تحدث المعجزات لكنه كان يقع في منطقة نائية. كنت أجلس في ركني بخجل و صمت.لاحظت الزائرة امتقاع وجهي. - سألت: ما به ابنك؟ و أجابت أمي
- إن عيون الناس سيئة جدا، أطفأت نظرة الحساد بريق هذا الوجه الذي كان يشبه باقة الورود. هل تذكرين خديه اللذين كانا بلون القرمز؟ و عينيه ذوات الرموش الطويلة السوداء كأجنحة الغراب؟ حسبي الله، سيكون انتقامه رهيبا. - قالت لالة عيشة: أستطيع أن أعطيك نصيحة، لنذهب ثلاثتنا إلى سيدي علي بوغالب هذا العصر. لن يستطيع هذا الطفل الذهاب إلى المسيد؛ إن جعلته يشرب ماء المزار، سيستعيد بهجته و قوته. كانت أمي لا تزال مترددة، لإقناعها، تكلمت لالة عيشة مطولا عن آلام مفاصلها، عن ساقيها اللتين لم تعودا تستجيبان لها، عن يديها الثقيلتين كالرصاص، عن الصعوبات التي تواجهها عندما تتقلب في فراشها و عن ليالي الأرق التي قضتها و هي تئن مثل أيوب على فراشه. بفضل سيدي علي بوغالب، سيد الأطباء و الفقهاء. اختفت أوجاعها. - لالة زبيدة، إن الله هو الذي أرسلني لأنجدك، لأدلك على طريق الشفاء. أنا أحبك، أنت و ابنك، لن أجد لذة في الطعام، و لا في الشراب، إن أنا تخليت عنك في عذابك. وعدت أمي بزيارة سيدي علي بوغالب و باصطحابي إليه عصر ذلك اليوم نفسه. تنفست لالة عيشة الصعداء. بقيت المرأتان تتحدثان لمدة طويلة بعد ذلك. صعدت أمي إلى السطح، عادت و معها باقة من النباتات العطرة التي كانت تزرعها في أصص مشقوقة و طناجر من المينا. عطرت شايها بعشبة رعي الحمام و القصعين. اقترحت على لالة عيشة غصنا صغيرا من الأفسنتين لتضعه في كأسها. رفضت بأدب، قالت بأن هذا الشاي كان
لذيذا بما فيه الكفاية، وضعت في كأسي كل أنواع الأعشاب العطرة. تركته يتشبع بها لمدة طويلة. أصبح شايي مرا، و لكن كنت أعلم أن هذا المشروب يريح إسهالاتي المتكررة. نهضت أمي لتستعد. غيرت قميصها و منصوريتها، بحثت في قاع الصندوق عن حزام قديم مطرز بلون أخضر باهت، وجدت قطعة قماش بيضاء تستعملها كحجاب، لفت نفسها بشكل لائق بحايكها الحديث الغسيل. لقد كان يوما عظيما في الحقيقة، لبست جلبابي الأبيض بدل القديم الذي أرتديه كل يوم، جلباب رمادي صعب الوصف، ملطخ ببقع الحبر و دوائر الدسم. عانت لالة عيشة الأ م ر ين في النهوض من الفراش الذي كانت ترقد عليه. بقيت لدي ذكرى حية عن هذه المرأة التي كان لها عرض يفوق طولها، رأس لصيق بجذعها، ذراعان قصيرتان تتحركان باستمرار. كان وجهها الأملس و الدائري يبعث في نوعا من الاشمئزاز. لم أكن أحب أن ت ق ب لني. عندما كانت تأتي لزيارتنا، كانت أمي تجبرني على تقبيل يدها لأنها كانت شريفة، ابنة الرسول، لأنها امتلكت الثروة و حافظت على وقارها رغم تقلبات القدر. كانت أمي تتشرف بمعرفة لالة عيشة. أخيرا، توجه الجميع إلى الدرج، ثم بلغنا الشارع بعد قليل. كانت المرأتان تمشيان بخطى صغيرة، تقتربان من بعضهما أحيانا لتتهامسا حول انطباعيهما. في المنزل، كانتا تزلزلان الجدران بقول أدنى التفاهات. بقدر ما كانت حبالهما الصوتية تعاني الأمرين في البيت كانتا تصبحان في الشارع صامتتين و لبقتين بلطف. أحيانا، كنت أتجاوزهما، لكنهما كانتا تلحقان بي كل ثلاثة خطوات لتزوداني بنصائح عن الحذر و توصيات. لم يكن يجب علي أن أحتك بالجدران: كانت الجدران متسخة جدا و كنت أرتدي جلبابي الأبيض الرائع، كان يجب علي أن أمسح أنفي دائما بمنديلي الجميل المطرز الذي كان معلقا في عنقي، كان يجب علي الابتعاد عن الحمير كذلك، لا يجب أن أتواجد وراءهم لأنهم يمكن أن يرفسوا ولا أمامهم لأنهم يستمتعون بأكل الأطفال الصغار. - كانت أمي تقول لي: أعطني يدك. و بعد خمسة خطوات: - إمشي أمامي، إن يدك متعرقة جدا. كنت أستعيد حريتي و لكن لوقت قصير. اقترحت لالة عيشة أن ترشدني في الازدحام. كانت تمشي ببطء و تتخذ مساحة كبيرة. كان الازدحام يتكون سريعا. كان المارة يلقون علينا كل أنواع الملاحظات البغيضة و لكن سرعان ما يهبون لنجدتنا. كانت أذرع مجهولة ترفعني من الأرض، تمررني من فوق الرؤوس و كنت أجد نفسي أخيرا في مساحة فارغة. كنت أنتظر مدة لا بأس بها قبل أن أرى الحايكين الناصعين و هما يظهران من بين الحشد. كان هذا المشهد يتكرر عدة مرات خلال هذه الرحلة. عبرنا شوارع بلا اسم ولا شكل خاص. كنت منتبها لنصائح مرشدت ي ، كنت أجتهد لأبتعد عن الحمير، كنت أتعثر بركب المارة باستمرار. كلما كنت أجتنب حاجزا كان يظهر آخر. وصلنا أخيرا إلى المقبرة التي تمتد على مدخل سيدي علي بوغالب. بادرت بخطوة مرح خجولة. كانت القبور المغطاة بالأذريون تحمر تحت ضوء الشمس. كان الباعة يقفون وراء أهرام البرتقال خاصتهم. كان يسمع صوت دف مغن شعبي و جرس بائع الماء. في مكان ضيق، كان قرويون يبيعون خشبا للغسيل، مجامر من الطين و أطباقا لطهي الحلويات، كانت صينيات بائعي السكاكر تجذب انتباهي. كانت تعرض ديكة و كتاكيت من سكر أصفر مزينة بخطوط وردية، أباريق شاي شفافة، بلاغي صغيرة و منافيخ. كانت هاته الأشياء الرائعة تذكرني بعلبة العجائب خاصتي. لقد أهداني أبي مثلها في بعض الأحيان، لكنها كانت تتفتت قبل الوصول إلى المنزل و تصبح ببساطة رمادية و مغبرة، لا تستحق أن توضع مع كنوزي. كانت تبدو جميلة، هناك، تحت أشعة الشمس، في ضجة الحشد. كان سقف القرميد الأخضر الذي يغطي الضريح ينبسط في سماء زرقاء كانت تلهو فيها سحب بيضاء و وردية بأشكال متغيرة. على درجات المدخل الرئيسي، كانت هناك نساء تجلسن على الأرض و تتحدثن مع بعضهن البعض، كن يمضغن علكة معطرة وراء حجابهن، ينادين على أطفالهن الذين يلعبون في التراب. كن يتزاحمن ليتركن لنا ممرا ضيقا. سرعان ما وجدنا أنفسنا في ساحة بدت لي واسعة جدا. كانت توجد في الوسط أربعة خوابي مليئة بالماء. وجدت أمي غرافا و سقتني، سكبت قليلا من السائل في قعر يدها، مررت يدها على وجهي، عيني، مفاصل يداي و كاحلاي. أثناء قيامها بهذا الطقس، كانت تتمتم بصلوات و دعوات غريبة، كانت توصيني بأن أبقى هادئا، كانت تذكر لالة عيشة بهذا الانقلاب أو ذاك خلال رحلتنا. كنت أتحمل كل ذلك بصبري المعتاد، كنت ألوي عنقي لأشاهد حشدا من القطط الذين كانوا يصدرون ضجيجا مزعجا داخل هذا المعبد الغريب. كانت توجد الزاوية في آخر تلك الساحة. من كل جانب في غرفة مربعة كان نعش الولي موضوعا فيها، كان هناك بابان يقودان إلى غرف الحجاج ، أناس قدموا من بعيد، ليتخلصوا من شرورهم، كانوا يعيشون هناك مع أطفالهم، منتظرين الشفاء. عند وقوفهما أمام النعش، بدأت أمي و لالة عيشة بالاستنجاد بالولي بأصوات مرتفعة. كانت كل واحدة تتجاهل كلام الأخرى. كانت كل واحدة تحكي له عن مآسيها الصغيرة، تضرب بيد مبسوطة خشب النعش، تئن، تتوسل، تؤنب أعداءها. كانت الأصوات ترتفع و الأيدي تضرب النعش بطاقة و شغف أكبرين، كان هذيان مقدس قد تمكن من المرأتين. كانتا تحصيان كل شرورهما، تظهران ضعفهما، تطلبان الحماية، تطالبان بالانتقام، تعترفان بذنوبهما، تقران برحمة الله و بقوة سيدي علي بوغالب و تلتمسان شفقته. توقفتا أخيرا بعد أن أنهكهما ورعهما. أتت حارسة الضريح لتثني على تقواهما و تضم صلواتها إلى خاصتهما. - قالت في الختام: أمنياتكما ستتحقق و رغباتكما ستنفذ. إن الله كريم، يسكن الآلام و يضمد جميع الإصابات. تبلغ طيبته جميع المخلوقات. أليست علامة على طيبته إرساله لنا رسلا ليصرفونا عن طريق الشر و يهدونا إلى طريق الجنة؟ إنه نتيجة لكرمه إرساله لنا بوساطة سيدنا محمد )صلى الله عليه و سلم( كلامه الجليل الذي يعلمنا الفضائل الأساسية: الصدقة، بر الوالدين، الإحسان إلى جميع المخلوقات. أولئك الذين قاموا بهذه الفضائل على أكمل وجه يصبحون أولياء الله و يشفعون لنا. يعتبر سيدي علي بوغالب من الوقر. لقد كان يحب جميع الكائنات و بالخصوص القطط. لدينا حاليا أكثر من خمسين واحدة منها. نحضرها مريضة، جرباء و هزيلة. يكفي قليل من الوقت لتستعيد صحتها و فرحها. يجب علينا إطعامها و معالجتها لنسعد الولي. كانت أمي تبحث في ملابسها. ثم ما لبثت أن أخرجت منديلا به عقدة كبيرة. فكته ببطء بالاستعانة بثنياتها عدة مرات. همست لالة عيشة بجملة غامضة في أذنها، هزت أمي رأسها و أعطت للمقدمة قطعتين من فئة فرنك واحد مصحوبتين بهذا التفسير: - هذا من أجلي و من أجل الشريفة التي ترافقني. فتحت الحارسة كلتا يديها، استلمت الهبة و باشرت ابتهالا طويلا. جاءت نساء لكي تنعمن بهذا السدى الروحي الذي يثلج القلوب. تسللت خارج حشد النساء هذا ببطء لكي أذهب و أداعب قطا كبيرا ممددا بشكل كلي أمام الحائط. نظر إلي بعينيه الصفراوتين، خرخر ثم أعطاني ضربة مخلب صارمة. تدفق الدم، بدأت يدي تؤلمني بشكل فظيع. أطلقت صرخة. أسرعت أمي، شديدة القلق، دافعة جاراتها، متعثرة بحايكها الذي كان يجر في الأرض. كانت الإصابة تؤلمني و كنت أصرخ باستمرار. كانت النساء تطرحن أسئلة، تتأسفن، تمنحنني برتقالة لمواساتي، تنادينني بوردتهن الصغيرة، باقة الياسمين خاصتهن، جبنتهن الصغيرة البيضاء. دون أن تهدئنني إطلاقا، كانت تلك الدوامة من الوجوه تشعرني بالدوار. كنت أنتحب لتشقق روحي، وضعت يد مبللة على وجهي، جففت فوطة دموعي و سيلان أنفي. أوقفت برودة هذه اليد دموعي. لكن لم أتوقف عن الفواق طوال طريق العودة. أنامتني أمي إبان وصولنا إلى البيت. كان أبي دائما أول المستيقظين. لم أكن أرى بوضوح خياله مع أول خيوط الفجر و هو يتحرك ببطء. كان يلف حول الكلى خاصته حبلا من شعر الماعز، طوله عدة أذرع، كان يستعمله كحزام. لهذا كان يدور حول نفسه، يرفع ساقا ليمرر الحبل و يرفع الأخرى بالتناوب، يقوم بحركات واسعة بذراعيه. ثم ينتقل بعد ذلك لتنسيق عمامته، يلبس جلبابه و يخرج في هدوء. كانت أمي ما تزال نائمة. هذا الصباح، سمعت أبي يهمس لها: - لا ترسليه إلى المسيد، يبدو متعبا جدا. وافقت أمي و غطست تحت أغطيتها مجددا. كان جميع من في المنزل ما يزالون نائمين. جاء دوريان و حطا على جدار الفناء، كنت أسمعهما يقفزان من مكان
لآخر، ضاربين الهواء بأجنحتهما القصيرة، كانا يتكلمان بشغف و كنت أفهم لغتهما. كان حوارا محتدما: قالا هذا بثقة : - أحب التين المجفف. - لماذا تحب التين المجفف؟ - يحب الجميع التين المجفف. - أجل! أجل! أجل! - يحب الجميع التين المجفف. - التين المجفف! - التين المجفف! - التين المجفف! حفت الأجنحة، رحل الدوريان ليكملا حديثهما على سطوح أخرى. كنت أفهم لغة الطيور و حيوانات أخرى أيضا، و لكنها لم تكن تعلم بذلك و كانت تفر عند اقترابي منها. كنت أحزن كثيرا لذلك. خشخشت دلاء مصطدمة في الفناء. كانت الشوافة أول من يستيقظ و كان ذلك أفضل! كانت ظلمة الليل لا تزال موجودة في مثل هذا الوقت حول النافورة و البئر، في المراحيض و في المشتل الكبير الذي كان يتناوب عليه الجميع من أجل الاغتسال. كانت الشوافة تعرف الكلمات الفعالة التي تجعل هذه الظلال وديعة. مساء كل خميس، كانت تحرق بخورا، ترش الزوايا بمياه زكية الرائحة و تنطق بتعاويذ طويلة. صفق باب. زينب، ابنة رحمة، بدأت تئن، كافأتها أمها بصفعة مدوية و أمطرتها بوابل من الشتائم. - في سنك! ألا تخجلين من تبليل فراشك كل ليلة تقريبا؟ يجب أن أرمي بك في زريبة بدل أن أحضر لكي بطانيتك كل يوم. قاطعتها الشوافة: - فليكن صباحك سعيدا يا رحمة! - فليكن يومك مشمسا، لالة. - كيف حالك هذا الصباح؟ - أشكر الله، لقد فرض علي عقوبة رهيبة في اليوم الذي أعطاني فيه هذه البوالة المشؤومة، أشكره على نعمه التي لا تحصى، أشكره في السراء و الضراء. - فليبعد عنك جميع الأحزان. كوني صبورة! ستتعافى هاته الفتاة، ستكون سلواك في عالم الشقاء هذا. - فليسمع منك الله، لالة! فليدر بركاته عليك و على من تعزين بدون حساب. تقلبت أمي في فراشها، سعلت، تنهدت، ثم جلست في الأخير، نهضت و فتحت النافذة. أصابت الشمس عيناي و آلمتني. سمعت صوت فتح مصراعي نافذة فاطمة بزيوية. بصوت ناعس، بدأت أمي سلسلة تحياتها المألوفة التي تخاطب بها جارتها المقابلة كل صباح. تمنت لها هذه نهارا سعيدا بالطريقة المعتادة. لم تكن أي واحدة تسمع كلام الأخرى، كل واحدة كانت تتلو كلامها المنمق بشكل رتيب يخلو من الحيوية أو الحماسة. كانتا تطرحان أسئلة و لكن تعرفان الأجوبة مسبقا. منذ ثلاثة سنوات و نحن نسكن معا، لقد رددتا نفس الجمل كل صباح. أحيانا كانتا تغيران كلمة واحدة، تلمحان إلى بعض الأحداث الأخيرة، لكن مثل هذه الحالات كانت نادرة جدا. سألت أمي بلامبالاة: - كيف حالك هذا الصباح؟ ألا يؤلمك رأسك كثيرا؟ هل نمت جيدا؟ ختمت ب: - إن الصحة شيء أساسي، يا أختي! لا يمكن لشيء تعويضها. أضافت في ذلك اليوم: - إن ابني ليس على ما يرام اليوم. فليبعد الله عنك و عن من تعزين كل سوء، و يفقأ عين كل من يحسدوننا. سمع صوت الشوافة و هو يرتفع من الطابق السفلي: - لالة زبيدة! فليكن صباحك مباركا! و فليبعد الله عنك كل سوء و ليحفظك أنت و أحبابك في صحة ممتازة! أجابت أمي: - فليكن يومك منيرا و مليئا بالبركات! كيف حالك هذا الصباح؟ فليسهر الله على سعادتك أنت و كل من تحبين. تابعت الشوافة: - لا تقلقي على ابنك، يسهر أولياء الله على صحته. لديه حماة في العالم المرئي و في العالم اللامرئي. أعلم أنه عزيز على القوى المباركة. عندما يصبح رجلا، سيكون سيفا بين السيوف، محاربا لا يقهر، خلية نحل مطلوبة لمذاقها و لعبيرها. - قالت أمي و هي متحمسة: لالة، يقطر من فمك السمن و العسل و تعطر رائحة الجنة نفسك. و أضافت أمي تغمرها البهجة و هي تنظر إلى السماء: - يا إلاهي، يا من يسمعني من أعلى السماوات، أنشر كنوزك التي لا تنضب، يا سيد كل الكنوز، على هذه المرأة الطيبة؛ فلتكن مهابة كما تستحق في هذا العالم و لتنعم بجودك في الآخر. فلتتوج حياتها بأداء فريضة الحج في الأماكن العزيزة علينا، لنا نحن، عبادك، الذين هديتنا إلى الحق بوساطة رسولك )صلى الله عليه، و على آله و صحبه الصلاة و السلام!( آمين، يا رب العالمين! - أجابت النساء في وقت واحد: آمين! خلال هذه المراسيم، كنت قد نهضت و لبست جلبابي. كانت أذناي تطنان قليلا، لكن لم أكن أشعر بتاتا بتعب أكثر من المألوف. كانت فكرة البقاء في المنزل طوال اليوم، بعيدا عن الفقيه و عن عصا السفرجل، تجعلني سعيدا للغاية. كان يوم أربعاء، كان اليوم التالي يوم عطلة في العادة و في يوم الجمعة كان الكتاب لا يفتح إلا بعد صلاة الجمعة. كان لدي يومان و نصف، يومان و نصف لأعيش كالأمير. ساعدتني أمي لأتوضأ و انشغلت بإشعال النار في الركن الذي كانت تستعمله كمطبخ. كان المنزل كله يدوي بصوت المنافيخ. كانت الشمس ساطعة. وضعت الطاولة عما قريب. كان هناك بيض مقلي بزيت الزيتون و خبز طازج. بدأنا نأكل. علال، زوج فاطمة بزيوية، حرفته البستنة، صاح في مدخل المنزل. - ألا يوجد أحد؟ هل أستطيع الدخول؟ أجابت رحمة: - لا يوجد أحد. أدخل! دوى صوت خطواته في الدرج. كنا ننتهي من الأكل عندما دخلت زوجته غرفتنا. كانت تحمل طبقا به فطيرتا سفنج. كنت أحبه كثيرا. نهضت أمي لتستقبل الزائرة، بوجه منزعج، و فم مقروص، بدأت التعابير التي يتطلبها الاحترام في مثل هذه المناسبات. - فاطمة! لماذا أزعجت نفسك؟ لا أستطيع أن أقبل! لدينا، و الحمد لله، ما يشبعنا بشكل كاف! فطيرتان! هذا كثير جدا! بالله عليك لا أستطيع أن أقبل. حاولت جارتنا أن تربح هذه المقاومة. أمسكت بيد أمي و اعترضت بحرارة. - لا تستطيعين أن تخجليني هكذا. أعطيها لسيدي محمد؛ فليعطه الله الصحة! لا تستطيعين الرفض؛ إن هذا شيء بسيط! أخيرا شكرتها أمي.- فليغمرك الله بأفضاله، و ليذقك من أطعمة الجنة التي يخصصها للمختارين خاصته. - سيفتح الله لنا جميع أبواب كنوزه. ذهبت فاطمة لتلتحق بزوجها و دفعت أمي الصحن إلى جانبي بكلتا الفطيرتين. - قالت لي: كلها، أنت الذي تحبها، لا تحتمل معدتي الفطائر. تلذذت. طرق أحد متعلمي أبي، الذي كان الجميع ينادونه بادريس الفظ، باب الدخول. طلب قفة ليقوم بالتسوق لنا. أوصته أمي بصوت مرتفع أن يختار لحما ليس فيه الكثير من العظام، و فولا أخضر لينا. كانت وضعية أبي مزدهرة جدا. كنا نستطيع تناول اللحم من ثلاثة إلى أربعة مرات في الأسبوع. أبي، من أصل جبلي مثل أمي، بعد تركه لقريته التي تقع على بعد خمسين كيلومتر من المدينة الكبيرة، عانى في البداية من صعوبات في كسب رزقه هو و زوجته الشابة. في بلاده، كان الناس نهابين و فلاحين. في فاس، كان لا بد من القيام بصناعة حضرية أو إنشاء تجارة صغيرة. في عائلتنا، لطالما اعتبر البيع و الشراء من أحقر الأعمال. كان أبي يتذكر بأنه كان يعمل كحائك للأغطية في فترة من شبابه داخل ورشة لأحد أخواله، كان يقوم بعمله بشرف، يحسن إنتاجه من يوم لآخر. عما قريب، انتشرت صناعته بشكل جيد و تمتعت الأسرة ببعض الرفاهية، كان هناك عامل قديم يمارس نفس المهنة مع أبي؛ كان إدريس الفظ يلف البكرات و يقوم بالتسوق. كان إدريس يأتي مرتين إلى المنزل: في الصباح لشراء المخزون و في منتصف النهار ليحضر غداء رئيسه. كان أبي يأكل في الورشة. كان لا
يعود حتى المساء بعد صلاة العشاء. باستثناء يوم الجمعة. كان يبقى أبي في العمل حتى قرابة الظهر؛ كان يدفع لموظفيه، يذهب إلى المسجد ليؤدي صلاة الجمعة و نتغدى كعائلة. عاد إدريس و هو يحمل سلته الثقيلة. قامت أمي بالجرد. لم يكن الفظ قد نسي شيئا. كان للحم مظهر جيد و كانت خضرة قشور الفول تسيل لعابنا بكثرة. كانت القفة تحتوي كذلك على ثوم، بقدونس و كمية من رزم البهارات. كان لدينا زيت، فحم و دقيق للشهر كله. عندما كانت أمي تتكلم عن "عين الحساد"، كانت تفكر في هذه الثروات حتما. كانت الجارات الأقل حظا تغرن منا قليلا. لم تكن تتجاهلن أي تفصيل من حياتنا المنزلية. كانت أمي بدورها تعرف صعوبات الجميع، الحالة المالية لكل أسرة، الديون التي كانت تأخذها، مصاريفها اليومية و مستواها الاعتيادي. تم إفراغ الفول في سلة كبيرة من الحلفاء على شكل طبق. - قالت لي أمي: ستساعدني على تقشيرها، وافقت و شرعت في العمل فورا، مللت من هذا العمل سريعا، ذهبت لألقي نظرة على غرفة بزيوية. كانت تفتل الكسكس. في إحدى الزوايا، كانت هناك كومة من الخضر: لفت، جزر، يقطين و بصل. كانت جارتنا تحبني كثيرا. توقفت للحظة عن فتل الكسكس و طفقت تبحث في سلة. مدت لي، بابتسامة عريضة، فجلة حمراء كالياقوت طولها شبر. ابتسمت لها لأشكرها و غرزت أسناني في الجسم الوردي لهذه الوجبة. كان طعمها قويا لدرجة أن دموعي خرجت من عيناي. لم أقل شيئا، رحلت متراجعا إلى الخلف، صعدت الدرجات التي تؤدي إلى السطح و رميت الفجلة الجميلة من فوق الجدار الذي كان يفصلنا عن المنزل الآخر. كانت الشمس مشرقة و حارة. كان هناك قط أبيض و أسود يرتاح على الحائط و يراقب حركاتي بعينيه النصف مغلقتين. لم أقترب منه. لقد علمتني ضربة مخالب القط المقيم في سيدي علي بوغالب أن أحترس من القطط التي تخرخر تحت أشعة الشمس. كانت أمي قد بدأت تقلق من غيابي، نادت علي بصوت مرتفع، توجهت للدرج لأنزل ثانية. كان هناك شخص يصعد الدرج بأقدام حافية. كانت الخطوات المتراخية و خشخشة الثياب تقترب. ظهرت رحمة. لم تعد أمي تحدثها منذ شجارهما. كانت المرأتان تتجنبان اللقاء، أما أنا فكنت لا أعلم إن كان يجب أن أبتسم لها أو أهرب. تراجعت للحائط و تركت الأحداث تتخذ القرار بدلا مني، بوصولها إلى ارتفاعي، توقفت رحمة، داعبت خدي و دست شيئا ما في يدي، كان شيئا ناعما و باردا، لكن ملمسه أغرقني في حمام من السرور. - همست لي جارتنا: هذا من أجلك. لم أرد بشيء، و جريت لألتحق بأمي التي كان صبرها ينفذ، كان الشيء لا يزال في باطن يدي و كان يطلق برودة ماء العين. جالسا في ركن من الغرفة، تجرأت أخيرا على رؤيته، لقد كان حجرا كريما من الزجاج متعدد الأوجه مرصع بالماس، حلية مذهلة و بربرية، قادمة بدون شك من بعض القصور الموجودة تحت الأرض و التي تسكن فيها قوى الخفاء. هل كان رسالة من هذه الممالك البعيدة؟ هل كان تعويذة؟ هل كان حجرا ملعونا أعطي لي من طرف عدوتنا ليثير علينا غضب الشياطين؟ ليجلب لي غضب جميع شياطين الأرض! كنت أمسك في يدي شيئا ذا قيمة لا توصف. سيكون له مكان في علبة العجائب خاصتي و سأطلع على كل خواصه. وجدتني أمي في زاويتي، ألقت علي نظرة خاطفة و قالت: قطعة زجاج أخرى! احذر من أن تؤذي نفسك.
الفصل 2
Reviewed by Admin
on
septembre 01, 2019
Rating:
Aucun commentaire: