في المساء، عندما ينام الجميع، الأغنياء في بطانياتهم الدافئة، الفقراء على درجات المحلات التجارية أو تحت سقائف القصور، أنا لم أكن أنام، كنت أفكر في وحدتي و أشعر بكامل وزنها. إن وحدتي قديمة جدا.في نهاية زقاق لا تبلغه الشمس مطلقا، كنت أرى طفلا صغيرا ذا ست سنوات، ينصب فخا ليمسك بدوري لكن هذا الدوري كان لا يأتي أبدا. كان يرغب بشدة في الإمساك بهذا الدوري الصغير، ليس لأكله و لا لتعذيبه، كان يريد فقط أن يجعل منه رفيقا له، بقدمين حافيتين و على أرض مبللة، كان يجري حتى نهاية الزقاق ليرى مرور الحمير ثم يعود للجلوس علىدرجة المنزل و انتظار قدوم الدوري الذي لا يأتي. في المساء، يعود بقلب منكسر و عينين حمراوين، مأرجحا في طرف ذراعه الصغيرة فخا مصنوعا من سلك نحاسي. كنا نسكن دار الشوافة، بيت العرافة. بالفعل، كانت تعيش عرافة ذات شهرة كبيرة في الطابق الأرضي. كانت نساء من كل الأنواع يأتين لاستشارتها من أبعد الأحياء. لقد كانت عرافة و ساحرة نوعا ما. تابعة لأخوية ڭناوة ) ناس غينيا ( مرة كل شهر، كانت تقيم جلسة موسيقى ورقصات زنجية. كانت سحب البنزوين تملأ المنزل و كانت المجلجلات و الڭمبريات تمنعنا من النوم طوال الليل. لم أكن أفهم شيئا من الطقوس المعقدة التي كانت تحدث في الطابق الأرضي. من نافذتنا في الطابق الثاني، كنت أميز بين دخان البخور الأطياف و هي تلوح. كانت تجلجل بآلاتها الغريبة. كنت أسمع زغاريدا. كانت الألبسة تكون تارة زرقاء سماوية و تارة حمراء قانية، و في بعض الأحيان صفراء لامعة. كانت الأيام التي تلي تلك الحفلات كئيبة، أكثر حزنا و أكثر مللا من الأيام العادية. كنت أستيقظ باكرا للذهاب إلى المسيد، ك تاب قرآني يقع على بعد خطوات من المنزل. كانت أصوات الليل لا تزال تدور في رأسي، كانت رائحة البنزوين و اللبان تسكرني، كان الجنون يحومون حولي، الشياطين السوداء المستدعاة من طرف الساحرة و أصدقائها بحماسة تبلغ حد الهذيان. كنت أحس بالجنون تلمسني بأصابعها الحارقة؛ كنت أسمع ضحكاتها كما في الليالي العاصفة. واضعا سبابتاي في أذناي، كنت أتلو الآيات المنقوشة على لوحي بنبرة من اليأس. كانت غرفتا الطابق الأرضي مسكونتين من طرف الشوافة المستأجرة الرئيسية. في الطابق الأول، كان يسكن إدريس العاود، زوجته رحمة و ابنتهما الأكبر مني بسنة واحدة. كان اسمها زينب و لم أكن أحبها. كانت
هذه الأسرة بأكملها تقيم في غرفة واحدة، كانت رحمة تطبخ في البسطة. كنا نتشارك الطابق الثاني مع فاطمة بزيوية. كانت نافذتانا متقابلتين و تطلان على الفناء، فناء قديم كانت بلاطاته قد فقدت مينا ألوانها منذ وقت طويل كما كان يبدو مبلطا بالآجر. لقد كان يغسل و يفرك كل يوم بالكثير من الماء و بمكنسة الدوم. كان الجنون يحبون النظافة. كانت زبونات الشوافة تحظين بانطباع جيد منذ البداية. انطباع الصفاء و السلام الذي كان يحث على البوح بالعديد من العناصر التي كانت تساعد العرافة على كشف المستقبل بثقة أكبر. لم تكن هناك زبونات كل يوم. رغم غرابة الأمر، لقد كانت هناك فترة كساد. لم يكن من الممكن التنبؤ بوقتها. بشكل مفاجئ، كانت النساء تتوقفن عن اللجوء لجرع الحب، تصبحن أقل اهتماما بالمستقبل، لا تشتكين من آلام الكلى، الكتف أو البطن، لم يكن أي عفريت يضايقهن. كانت الشوافة تختار هذه الشهور القليلة لتهتم بصحتها الخاصة، كانت تكشف الشرور التي لم يستطع علمها التقليل منها. كانت الشياطين تسبب لها الهلوسة، تصبح متطلبة بخصوص لون القفاطين، ساعة ارتدائها، البخور التي يجب حرقها في هذه المناسبة أو تلك. في ظليل حجرتها الكبيرة و المغلفة بقماش الكريتون، كانت الشوافة تنتحب، تشتكي، تتعوذ و تختفي وسط سحب البنزوين و اللبان. ربما كنت في السادسة، كانت ذاكرتي لا تزال شمعا طريا و كانت أصغر الأحداث تنقش فيها على شكل صور لا تمحى. يبقى لدي هذا الألبوم لأسلي به وحدتي، لأثبت لنفسي بأنني لم أمت بعد. في عمر ست سنوات، كنت وحيدا، ربما تعيسا، لكن لم تكن لدي أية نقطة رجوع تسمح لي بالاتصال بوجودي: الوحدة أو التعاسة. لم أكن سعيدا و لا تعيسا. كنت طفلا وحيدا. هذا كنت أعرفه. حلقة مفقودة منذ البداية. كونت صداقات محتشمة مع أطفال الكتاب القرآني، لكنها كانت قصيرة الأمد. نسكن عوالم مختلفة. كان لدي ميول للحلم. كان العالم يبدو لي مكانا رائعا. مهرجانا كبيرا كانت الساحرات تمارسن فيه تجارة مستمرة مع قوى خفية. كنت أرغب في أن يقبلني اللامرئي. لأشارك في أسراره. كان رفاقي الصغار في الكتاب يكتفون بالمرئي. بالأخص عندما كان هذا المرئي يتجلى في سكاكر زرقاء سماوية أو وردية بلون غروب
الشمس. كانوا يحبون القضم، المص، العض بكامل أسنانهم. كانوا يحبون كذلك ألعاب القتال. مهاجمة الحلق كما كان يفعل القتلة، الصراخ لتقليد أصوات آبائهم، التشاتم لتقليد الجيران، القيادة لتقليد معلم الكتاب. أنا لم أكن أريد تقليد أي شيء، كنت أريد أن أعرف. حكى لي عبد الله البقال عن إنجازات ملك مدهش كان يعيش في بلد من النور، من الأزهار و من العطور، أبعد من بحور الظلمات، أبعد من سور الصين العظيم، و كنت أريد أن أعقد صفقة مع القوى الخفية التي كانت تطيع الساحرات لكي تأخذني إلى أبعد من بحور الظلمات و أبعد من سور الصين العظيم. للعيش في بلد النور ذاك، بلد العطور و الأزهار. كان أبي يحدثني عن الجنة، لكن عن البعث فيها، كان لابد من الموت أولا، كان أبي يقول بأن الانتحار إثم كبير، كان إثما يمنع من الدخول إلى تلك المملكة. إذن، لم يكن لدي سوى حل واحد: أن أنتظر! أنتظر حتى أصير رجلا، أنتظر حتى أموت و أبعث بجانب عين سلسبيل. أنتظر! هذا ما يعنيه الوجود. لم أكن أشعر بأي خوف تجاه هذه الفكرة. كنت أستيقظ صباحا. أفعل ما كان يطلب مني. في المساء، كانت الشمس تختفي و أعود للنوم لأبدأ الغد من جديد. كنت أعلم بأن كل يوم ينضاف إلى الآخر، أعلم بأن الأيام تكون شهورا، أن الشهور تصبح فصولا، و الفصول تكون السنة. لدي ست سنوات، في السنة القادمة سيكون لدي سبعة ثم ثمانية، تسعة و عشرة. في سن العاشرة، يصبح المرء رجلا تقريبا. في سن العاشرة، نطوف بمفردنا الحي كله، نتكلم مع التجار، نعرف الكتابة، على الأقل اسمنا، نستطيع استشارة عرافة حول المستقبل، تعلم كلمات سحرية، تركيب تعاويذ.
في انتظار ذلك، كنت وحيدا وسط حشد من رؤوس صلعاء، أنوف مبللة، في دوار من تراتيل الآيات الكريمة. كان الكتاب يقع في مدخل درب النوالة. الفقيه، الشخص الطويل و النحيف ذو اللحية السوداء، الذي كانت عيناه تقذفان بنيران غضب باستمرار. كان يسكن شارع جياف. كنت أعرف هذا الشارع. كنت أعلم أنه يقع في آخر زنقة سوداء و مبللة، كان هناك باب منخفض يفتح طوال اليوم ليخرج منه صخب متواصل من أصوات النساء و بكاء الأطفال. في أول مرة سمعت فيها هذا الصوت، أجهشت بالبكاء لأنني سمعت أصوات الجحيم كما وصفها لي أبي ذات مساء. هدأتني أمي: - سأصطحبك لتأخذ حماما، أعدك ببرتقالة و بيضة مسلوقة و ستستطيع النهيق كالحمار! أجبت و أنا لا أزال أفوق: - لا أريد الذهاب للجحيم. رفعت عينيها للسماء و صمتت، مشوشة من هذا القدر من الحماقة. أظن بأنه لم يسبق لي أن ذهبت لحمام عمومي منذ طفولتي. كان هناك دائما تخوف غامض و إحساس بعدم الارتياح يمنعانني من دخوله. بعد التفكير جيدا، لا أحب الحمامات العمومية. كان الاختلاط، ذلك المجون و التهاون الذ ي ن يعتقد الناس بأنهم مضطرون لتصنعها تجعلني أنفر منها. حتى و لو كنت طفلا، كنت أشم في هذا الحشد من الأجسام المبللة، في نصف اليوم المقلق هذا، رائحة الإثم، إحساس غامض جدا، خصوصا في السن الذي كنت فيه لا أزال أستطيع مرافقة أمي إلى الحمام العمومي، الذي كان يثير في نوعا من الاضطراب. ما إن وصلنا، تسلقنا سدة عريضة مفروشة بحصير. بعد دفع خمس و سبعين سنتيما للصرافة بدأنا تعرينا وسط صخب من الأصوات الحادة، حركة مرور مستمرة لنساء نصف لابسات، مخرجات من صرر ثيابهن الضخمة قفاطينا و منصوريات، قمصانا و سراويلا، حوائك بشرابات ذوات بياض براق. جميع هاته النساء كن يتكلمن بصوت عال، يلوحن بشغف، يطلقن صرخات يصعب شرحها و لا مبرر لها. خلعت ملابسي وبقيت جالسا ببلاهة، يداي على بطني، أمام أمي التي انخرطت في حديث مع صديقة تعرفها. كان هناك أطفال آخرون، و لكن كانوا يبدون مرتاحين، كانوا يجرون بين الأفخاد المبللة و النهود المتدلية، جبال الصرر، فخورين بإظهار بطونهم المنتفخة و مؤخراتهم الصغيرة.
كنت أحس بالوحدة أكثر من أي وقت مضى. كنت أقتنع شيئا فشيئا بأن هذا هو الجحيم. في القاعات الحارة، أهلكني أخيرا جو البخار، شخصيات الكوابيس التي كانت تتحرك فيه و درجة الحرارة، جلست في إحدى الزوايا، مرتجفا من الحمى و الخوف. كنت أتساءل ما الذي كانت تفعله تلك النساء اللواتي كن يتجولن في كل مكان، يجرين في كل الأنحاء، جارات دلاء كبيرة من الماء الفوار. الذي كان يرشني عند مرورهن. ألم يأتين للاستحمام؟ لقد كان هناك بالفعل واحدة أو اثنتان ممن يمشطن شعرهن، جالسات بسيقان ممدودة، محتجات بصوت عال، لكن لم يكن يبدو على الأخريات حتى بأنهن قد انتبهن لوجودهن و كن يتابعن رحلاتهن الأبدية بدلائهن الخشبية التي لا تنتهي. كانت أمي، التي ابتلعتها الدوامة، تظهر من حين لآخر بين كتلة من السيقان و الأذرع، ترمي لي بتوصية أو شتيمة لم أكن أستطيع فهمها ثم تختفي من جديد. كان أمامي، في دلو فارغ، مشط من القرن، غراف نحاسي مصقول جيدا، برتقالات و بيض مسلوق. أخذت برتقالة بخجل، قشرتها، مصصتها لمدة طويلة، بنظرة غير ثابتة، كان شعوري بقلة حياء جسمي قد قل وسط هذا الظليل، كنت أراقبه و هو يتغطى بقطرات كبيرة من العرق و انتهى بي الأمر بنسيان النساء اللواتي كن يتجولن، دلائهن الخشبية و رحلاتهن الغير مفهومة حول الحجرة. انقضت علي أمي، وضعتني داخل دلو ماء، وسكبت على رأسي صلصالا طيب الرائحة و رغم صرخاتي و دموعي أمطرتني بسيل من الشتائم و النار. أخرجتني من الدلو، رمتني في ركن مثل حزمة، اختفت من جديد داخل الدوامة. دام يأسي قليلا، أدخلت يدي في دلو العدة و أخذت بيضة مسلوقة، كنت أحب هذه الوجبة كثيرا. لم أكن قد انتهيت من قضم المح عندما عادت أمي من جديد، سكبت علي ماء فوارا و باردا بشكل متعاقب، غطتني بمنشفة و أخذتني نصف ميت إلى الهواء البارد على الصرر. سمعتها تقول للصرافة: - لالة فطوم، سأترك لك ابني، لم أحظى بعد بأي قطرة ماء لأستحم. لي: - ا رتدي ملابسك، يا رأس البصلة! هذه برتقالة لتنشغل بها. وجدت نفسي وحيدا، يداي متقاطعتان على بطني الملتهب، أكثر بلاهة من أي وقت مضى، وسط كل هؤلاء الغريبات و صررهن الباذخة.
ارتديت ملابسي. أتت أمي لبرهة لكي تلف رأسي بإحكام بمنشفة عقدتها تحت الذقن، زودتني بكل أنواع التوصيات ثم تم ابتلاعها إلى داخل القاعات الحارة من طرف ذلك الباب الأسود الذي كان أمامي و الذي كانت تخرج منه جميع أنواع الإشاعات. انتظرت على السدة حتى المساء. أتت أمي في الأخير، كان يبدو عليها التعب و تشكو من صداع عنيف.
من حسن حظي، كانت حصص الحمام هذه نادرة جدا. لم تكن أمي تريد أن تزعج نفسها بالطفل الأخرق و الأرعن الذي كنت عليه. خلال غيابها، كنت أستسلم لنزواتي. كنت أجري في الدرب حافي القدمين، مقلدا خطوات الأحصنة الإيقاعية، أصهل بفخر و أقوم برفسات. أحيانا، أفرغ ببساطة علبة العجائب خاصتي أرضا و أحصي كنوزي. كان زر بسيط من الخزف الصيني يجعل حواسي ترقص. عندما نظرت إليه مطولا، كنت ألمس المادة بأصابعي باحترام. لكن كان في هذا الشيء عنصر لا يمكن إدراكه لا بالعينين ولا بالأصابع، جمال غامض لا يمكن وصفه. كان يفتنني، كنت أحس بكامل عجزي و أنا أتمتع به بلا تحفظ. كنت أبكي تقريبا من الإحساس حولي بذلك الشيء الغريب الخفي، الغير ملموس، الذي لم أكن أستطيع تذوقه بلساني، و لكن الذي كان له مذاق و قدرة الإسكار. و كان ذلك يتجسد في زر من الخزف الصيني و يعطيه بهذا روح و فضيلة تعويذة. في علبة العجائب، كان هناك مجموعة من الأشياء متعددة العناصر التي، بالنسبة لي وحدي، كان لها معنى: كرات زجاجية، أزرار مزينة، حلقات نحاسية، قفل صغير بدون مفتاح، مسامير ذات رأس مذهب، محبرات فارغة، أزرار مزينة، أزرار بدون زينة. كانت هناك من هي مصنوعة من مادة شفافة، من معدن أو من صدف. كل واحد من هذه الأشياء كان يحدثني بلغته. كان أولئك هم أصدقائي الوحيدون.
بالطبع، كانت لدي علاقات في عالم الأسطورة مع أمراء شجعان جدا و عمالقة بقلب حنون، لكن كانوا يسكنون في الزوايا المخفية من مخيلتي. بالنسبة لكراتي الزجاجية، أزراري و مساميري، كانوا هناك، في كل لحظة، في علبتهم المستطيلة، جاهزين لإنقاذي في ساعات الحزن. في اليوم التالي للحمام، لم يكن يفوت أمي أن تحكي الحصة لجميع من في المنزل، بتعاليق مفصلة تكثر فيها المواقف و النوادر التي تستحق الإعجاب. كانت تقلد حركات شريفة تلك المعروفة في الحي و تصرفات تلك الجارة التي لم تكن تعجبها، كانت تصف ثناء الصرافة أو غضب المدلكات، أولئك السمسارات، أمهات المصائب، اللواتي كن يخدعن الزبونات دون أن يحضرن لهن قطرة ماء واحدة.
بطبيعة الحال، كان الحمام العمومي مكانا للغيبة و النميمة. كنا نتعرف على نساء لا يسكن في الحي، بقدر ما كنا نذهب كثيرا لنستحم كنا نذهب للبقاء على اطلاع بما يجري، بما يقال، كان يحدث أحيانا بأن تغني امرأة مقطعا موسيقيا و هكذا ينتشر هذا المقطع في حينا. لقد شهدت أمي مرتين أو ثلاثا معركات نساء حقيقية. كانت مثل تلك المواقف تعطي مجالا لاحتفالات كوميدية. طوال أسبوع،كانت أمي تظل تمثل أمام نساء المنزل، صديقات الطريق و الجارات، الشجار بمراحله المتعددة. لقد كنا نحظى بتمهيد متبوع بتقديم للشخصيات، كل واحدة بقوامها الخاص، تشوهات جسمها، خصائص صوتها، حركاتها و نظرتها. كنا نرى ولادة الشجار، نشهد تطوره، بلوغه مرحلة الذروة و انتهاءه بالأحضان أو الدموع. كانت أمي تلقى نجاحا كبيرا لدى الجارات، لم يكن يعجبني كثيرا هذا النوع من العروض. كان إفراط أمي في البهجة بالنسبة لي مرتبطا بعواقب مؤسفة. في الصباح، مفعمة بالنشاط، لم يكن يفوتها، في المساء، أن تجد سببا للخصام أو البكاء. كان أبي يعود دائما متأخرا، كان نادرا ما يجدنا في مزاج جيد. كان في معظم الأحيان يتحمل قصة حدث كانت أمي تستمتع بطلائه بأدكن الألوان. في بعض الأحيان، كان حدث تافه يتحول إلى كارثة. هذا ما حدث عندما خطرت لرحمة فكرة الغسيل المشؤومة في يوم الإثنين. لقد كان من المتفق عليه أن هذا اليوم مخصص لأمي وحدها. في الصباح الباكر، كانت تحتل الفناء، تملؤه بمعالف خشبية، بأسقية كانت تستعملها كطشوت، بدلاء للشطف و بحزم من الغسيل المتسخ. بالكاد تلبس سروال وقفطانا قديما و ممزقا، كانت تنشغل حول نار مرتجلة، تحرك محتوى السقاء بقصبة طويلة، تثور على الخشب الذي كان يعطي دخانا أكثر من الحرارة، تتهم بائعي الصابون الأسود بغشها و تلقي عليهم كل أنواع اللعنات. لم يكن الفناء يكفي لنشاطها. كانت تصعد حتى السطح، تمد حبالها، تثبتها بالاستعانة بقصب التوت، تنزل ثانية لتمزج سحبا من الرغوة. في ذلك اليوم، كانت أمي ترسلني إلى الكتاب بقميص عادي تحت جلبابي كلباس. كان الغداء بسيطا. كان يجب علي أن أكتفي بربع من الخبز مدهون بزبدة زنخة، مرفوق بثلاثة زيتونات. حتى غرفتنا كانت تفقد مظهرها المعتاد. ترقد الأفرشة هناك بدون أغطية، لم يعد للوسائد أغلفة و كانت النافذة تبدو عارية بدون ستارتها المزينة بزهيرات صغيرة حمراء.
كان المساء مخصصا لطي الملابس. كانت أمي تأخذ قميصا منكمشا جدا و تفوح منه رائحة الشمس، تبسطه على ركبتيها، تنظر إليه بإمعان، تطويه، الأكمام في الداخل، بإطباق، بضغط تقريبا. أحيانا، كانت تقوم بالغ ز ل. لم تكن تحب الخياطة كثيرا و حتى أنا كنت أفضل مشاهدتها تجر منادفها أو تدير مغزلها. الإبرة، آلة حضرية بشكل خاص، كانت تمثل في عيني رمزا للمهارة. لقد كان تقليدا في عائلتنا أن المهنة النسائية النبيلة بامتياز كانت تتجلى في غزل الصوف. كان استعمال الإبرة يعادل الإلحاد تقريبا. كنا فاسيين عن طريق حادث، لكن كنا نبقى أوفياء لأصولنا الجبلية للأسياد الفلاحين. لم يكن يفوت أمي أبدا أن تذكر أصولها عند الشجار مع الجارات. لقد كانت تتجرأ حتى على أن تؤكد أمام رحمة أننا من أحفاد الرسول الأصليين. - كانت تقول: توجد أوراق لإثبات ذلك، أوراق محفوظة بعناية من طرف إمام مسجد مدينتنا الصغيرة. من تكونين أنتي، زوجة صانع محاريث، بدون حسب، لتجرئي على نشر غسيلك، المليء بالقمل، بجانب غسيلي الحديث التنظيف؟ أعرف من أنت، متسولة من المتسولات، خادمة من الخادمات، بائسة، مجرد متغوطة و مقملة، لاحسة أطباق لا تأكل حتى الشبع أبدا. و زوجك! حدثيني عن هذا الكائن الممسوخ، ذو اللحية التي نخرها العث، الذي تفوح منه رائحة الزريبة و ينهق كالحمار! ماذا تقولين؟ سأخبر زوجي؟ هل أنا أخشى زوجك؟ فليأتي! سأريه ما تستطيع امرأة نبيلة الأصول فعله. أما بالنسبة لك، كفي عن الصراخ و اجمعي حبالك. ستشهد جميع الجارات لصالحي. لقد استفزيتني. لست فتاة صغيرة لأتعرض للإهانة من طرف امرأة مثلك. من نافذتنا في الطابق الثاني، كنت أتابع المشهد و أنا شاحب من الفزع و الخوف، بينما كانت ذاكرتي الطفولية تسجل الجمل العنيفة. في المساء، و النعاس يثقلني، سمعت أبي يصعد الدرج. دخل كما هي عادته، اتجه نحو فراشه الموضوع مباشرة على الأرض. حضرت أمي العشاء، وضعت الطاولة المستديرة، طبق اليخنة و الخبز. كنا نحس بأنها تحرد. بدأ أبي بالأكل دون طرح أسئلة.
كانت أمي لا تزال تحرد. ثم رفعت صوتها بشكل مفاجئ و قالت: - ألا يزعجك هذا، عندما يتم اغتيابنا، شتمنا، شتم أصولنا الشريفة، أجدادنا الذين كانوا يجعلون القبائل ترتجف! ألا يزعجك أن يحاول أناس من طبقة من ح طة تلطيخ، بكلام غير لائق، عائلتنا التي تشمل بين أمواتها رجالا شجعنا، زعماء، قديسين و علماء! كان أبي يتابع الأكل دون أن ينطق بكلمة واحدة. أعادت أمي: - أجل، كل هذا لا يزعجك. أن تتعرض زوجتك لكل الشتائم، لم تتأثر شهيتك و تأكل كما هي عادتك. أنا، أشعر بالكثير من وجع القلب حتى أنني لن آكل مجددا في حياتي.
أطلقت أمي عويلا طويلا و هي تخفي وجهها بيديها ثم أجهشت بالبكاء بدموع حارة. كانت تنتحب، تتأسف، تضرب فخديها بشدة، تغني بإيقاع رتيب و حزين جدا كل المآسي التي أصابتها. كانت تحصي كل الشتائم التي تلقتها، النعوت التي تم وصفها بها. تكرر بدون توقف الثناء على أسلافها الذين تمت الإساءة لهم بنفس المناسبة. بعد أن شبع أبي، شرب رشفة ماء، مسح فمه، سحب وسادة ليتكئ عليها و سأل: - مع من تشاجرتي ثانية؟ كان للجملة أثر سحري على أمي. توقفت عن البكاء، رفعت رأسها و خاطبت أبي بموجة من السخط: - لكن مع ساقطة الطابق الأول، زوجة صانع المحاريث! لطخت هذه المخلوقة المقرفة غسيلي بخرقها التي تفوح منها رائحة الزريبة. إنها لا تستحم عادة، ترتدي ملابسها لمدة ثلاثة أشهر، لكن لتفتعل شجارا، اختارت الإثنين، يوم غسيلي، لتخرج خرقها. أنت تعرف صبري، دائما أحاول تبسيط المشاكل، لا أفقد أدبي التقليدي أبدا؛ لقد ورثت هذا عن عائلتي، كلنا مؤدبون، إن الناس الذين يستفزوننا بكلماتهم الفظة يضيعون وقتهم فقط. نعرف كيف نحافظ على هدوئنا و نصون كرامتنا. كان لا بد لهذه المقملة ... انبثق صوت رحمة في الظلام. - مقملة! أنا! هل تسمعون، يا أمة المسلمين؟ لم يكفها النهار، إن الرجال موجودون الآن في البيت ويستطيعون أن يشهدوا أمام الله من منا تعدى حسن الجوار. ما حدث بعد ذلك لا يمكن وصفه بالكلمات، في البدء كانت هناك صرخات حادة و مطولة، صياحات، أصوات متقطعة. كانت كل واحدة من الغريمتين، تطل من نافذتها، تلوح في الفراغ، تقول شتائم لا يفهمها أحد و تنتف شعرها. مسكونتين بشيطان الرقص، كانتا تقومان بالتوائات غريبة. خرج الجيران و الجارات من غرفهم و ضموا أصواتهم إلى أصوات الجنيتين. الرجال، بأصواتهم الخشنة، كانوا يحثونهما على الهدوء، كانوا يصرون على أن تلعنا الشيطان بشدة، لكن هاته النصائح الحكيمة كانت تزيد من غضبهن. أصبح الضجيج لا يحتمل. لقد كانت عاصفة، زلزالا، ثورانا للقوى الخفية، انهيارا للعالم.
لم أكن أستطيع التحمل أكثر. كانت أذناي في عذاب، كان قلبي داخل صدري يلطم بقوة جدران قفصه. خنقني النحيب و انهرت على قدمي أمي، بدون وعي.
في انتظار ذلك، كنت وحيدا وسط حشد من رؤوس صلعاء، أنوف مبللة، في دوار من تراتيل الآيات الكريمة. كان الكتاب يقع في مدخل درب النوالة. الفقيه، الشخص الطويل و النحيف ذو اللحية السوداء، الذي كانت عيناه تقذفان بنيران غضب باستمرار. كان يسكن شارع جياف. كنت أعرف هذا الشارع. كنت أعلم أنه يقع في آخر زنقة سوداء و مبللة، كان هناك باب منخفض يفتح طوال اليوم ليخرج منه صخب متواصل من أصوات النساء و بكاء الأطفال. في أول مرة سمعت فيها هذا الصوت، أجهشت بالبكاء لأنني سمعت أصوات الجحيم كما وصفها لي أبي ذات مساء. هدأتني أمي: - سأصطحبك لتأخذ حماما، أعدك ببرتقالة و بيضة مسلوقة و ستستطيع النهيق كالحمار! أجبت و أنا لا أزال أفوق: - لا أريد الذهاب للجحيم. رفعت عينيها للسماء و صمتت، مشوشة من هذا القدر من الحماقة. أظن بأنه لم يسبق لي أن ذهبت لحمام عمومي منذ طفولتي. كان هناك دائما تخوف غامض و إحساس بعدم الارتياح يمنعانني من دخوله. بعد التفكير جيدا، لا أحب الحمامات العمومية. كان الاختلاط، ذلك المجون و التهاون الذ ي ن يعتقد الناس بأنهم مضطرون لتصنعها تجعلني أنفر منها. حتى و لو كنت طفلا، كنت أشم في هذا الحشد من الأجسام المبللة، في نصف اليوم المقلق هذا، رائحة الإثم، إحساس غامض جدا، خصوصا في السن الذي كنت فيه لا أزال أستطيع مرافقة أمي إلى الحمام العمومي، الذي كان يثير في نوعا من الاضطراب. ما إن وصلنا، تسلقنا سدة عريضة مفروشة بحصير. بعد دفع خمس و سبعين سنتيما للصرافة بدأنا تعرينا وسط صخب من الأصوات الحادة، حركة مرور مستمرة لنساء نصف لابسات، مخرجات من صرر ثيابهن الضخمة قفاطينا و منصوريات، قمصانا و سراويلا، حوائك بشرابات ذوات بياض براق. جميع هاته النساء كن يتكلمن بصوت عال، يلوحن بشغف، يطلقن صرخات يصعب شرحها و لا مبرر لها. خلعت ملابسي وبقيت جالسا ببلاهة، يداي على بطني، أمام أمي التي انخرطت في حديث مع صديقة تعرفها. كان هناك أطفال آخرون، و لكن كانوا يبدون مرتاحين، كانوا يجرون بين الأفخاد المبللة و النهود المتدلية، جبال الصرر، فخورين بإظهار بطونهم المنتفخة و مؤخراتهم الصغيرة.
كنت أحس بالوحدة أكثر من أي وقت مضى. كنت أقتنع شيئا فشيئا بأن هذا هو الجحيم. في القاعات الحارة، أهلكني أخيرا جو البخار، شخصيات الكوابيس التي كانت تتحرك فيه و درجة الحرارة، جلست في إحدى الزوايا، مرتجفا من الحمى و الخوف. كنت أتساءل ما الذي كانت تفعله تلك النساء اللواتي كن يتجولن في كل مكان، يجرين في كل الأنحاء، جارات دلاء كبيرة من الماء الفوار. الذي كان يرشني عند مرورهن. ألم يأتين للاستحمام؟ لقد كان هناك بالفعل واحدة أو اثنتان ممن يمشطن شعرهن، جالسات بسيقان ممدودة، محتجات بصوت عال، لكن لم يكن يبدو على الأخريات حتى بأنهن قد انتبهن لوجودهن و كن يتابعن رحلاتهن الأبدية بدلائهن الخشبية التي لا تنتهي. كانت أمي، التي ابتلعتها الدوامة، تظهر من حين لآخر بين كتلة من السيقان و الأذرع، ترمي لي بتوصية أو شتيمة لم أكن أستطيع فهمها ثم تختفي من جديد. كان أمامي، في دلو فارغ، مشط من القرن، غراف نحاسي مصقول جيدا، برتقالات و بيض مسلوق. أخذت برتقالة بخجل، قشرتها، مصصتها لمدة طويلة، بنظرة غير ثابتة، كان شعوري بقلة حياء جسمي قد قل وسط هذا الظليل، كنت أراقبه و هو يتغطى بقطرات كبيرة من العرق و انتهى بي الأمر بنسيان النساء اللواتي كن يتجولن، دلائهن الخشبية و رحلاتهن الغير مفهومة حول الحجرة. انقضت علي أمي، وضعتني داخل دلو ماء، وسكبت على رأسي صلصالا طيب الرائحة و رغم صرخاتي و دموعي أمطرتني بسيل من الشتائم و النار. أخرجتني من الدلو، رمتني في ركن مثل حزمة، اختفت من جديد داخل الدوامة. دام يأسي قليلا، أدخلت يدي في دلو العدة و أخذت بيضة مسلوقة، كنت أحب هذه الوجبة كثيرا. لم أكن قد انتهيت من قضم المح عندما عادت أمي من جديد، سكبت علي ماء فوارا و باردا بشكل متعاقب، غطتني بمنشفة و أخذتني نصف ميت إلى الهواء البارد على الصرر. سمعتها تقول للصرافة: - لالة فطوم، سأترك لك ابني، لم أحظى بعد بأي قطرة ماء لأستحم. لي: - ا رتدي ملابسك، يا رأس البصلة! هذه برتقالة لتنشغل بها. وجدت نفسي وحيدا، يداي متقاطعتان على بطني الملتهب، أكثر بلاهة من أي وقت مضى، وسط كل هؤلاء الغريبات و صررهن الباذخة.
ارتديت ملابسي. أتت أمي لبرهة لكي تلف رأسي بإحكام بمنشفة عقدتها تحت الذقن، زودتني بكل أنواع التوصيات ثم تم ابتلاعها إلى داخل القاعات الحارة من طرف ذلك الباب الأسود الذي كان أمامي و الذي كانت تخرج منه جميع أنواع الإشاعات. انتظرت على السدة حتى المساء. أتت أمي في الأخير، كان يبدو عليها التعب و تشكو من صداع عنيف.
من حسن حظي، كانت حصص الحمام هذه نادرة جدا. لم تكن أمي تريد أن تزعج نفسها بالطفل الأخرق و الأرعن الذي كنت عليه. خلال غيابها، كنت أستسلم لنزواتي. كنت أجري في الدرب حافي القدمين، مقلدا خطوات الأحصنة الإيقاعية، أصهل بفخر و أقوم برفسات. أحيانا، أفرغ ببساطة علبة العجائب خاصتي أرضا و أحصي كنوزي. كان زر بسيط من الخزف الصيني يجعل حواسي ترقص. عندما نظرت إليه مطولا، كنت ألمس المادة بأصابعي باحترام. لكن كان في هذا الشيء عنصر لا يمكن إدراكه لا بالعينين ولا بالأصابع، جمال غامض لا يمكن وصفه. كان يفتنني، كنت أحس بكامل عجزي و أنا أتمتع به بلا تحفظ. كنت أبكي تقريبا من الإحساس حولي بذلك الشيء الغريب الخفي، الغير ملموس، الذي لم أكن أستطيع تذوقه بلساني، و لكن الذي كان له مذاق و قدرة الإسكار. و كان ذلك يتجسد في زر من الخزف الصيني و يعطيه بهذا روح و فضيلة تعويذة. في علبة العجائب، كان هناك مجموعة من الأشياء متعددة العناصر التي، بالنسبة لي وحدي، كان لها معنى: كرات زجاجية، أزرار مزينة، حلقات نحاسية، قفل صغير بدون مفتاح، مسامير ذات رأس مذهب، محبرات فارغة، أزرار مزينة، أزرار بدون زينة. كانت هناك من هي مصنوعة من مادة شفافة، من معدن أو من صدف. كل واحد من هذه الأشياء كان يحدثني بلغته. كان أولئك هم أصدقائي الوحيدون.
بالطبع، كانت لدي علاقات في عالم الأسطورة مع أمراء شجعان جدا و عمالقة بقلب حنون، لكن كانوا يسكنون في الزوايا المخفية من مخيلتي. بالنسبة لكراتي الزجاجية، أزراري و مساميري، كانوا هناك، في كل لحظة، في علبتهم المستطيلة، جاهزين لإنقاذي في ساعات الحزن. في اليوم التالي للحمام، لم يكن يفوت أمي أن تحكي الحصة لجميع من في المنزل، بتعاليق مفصلة تكثر فيها المواقف و النوادر التي تستحق الإعجاب. كانت تقلد حركات شريفة تلك المعروفة في الحي و تصرفات تلك الجارة التي لم تكن تعجبها، كانت تصف ثناء الصرافة أو غضب المدلكات، أولئك السمسارات، أمهات المصائب، اللواتي كن يخدعن الزبونات دون أن يحضرن لهن قطرة ماء واحدة.
بطبيعة الحال، كان الحمام العمومي مكانا للغيبة و النميمة. كنا نتعرف على نساء لا يسكن في الحي، بقدر ما كنا نذهب كثيرا لنستحم كنا نذهب للبقاء على اطلاع بما يجري، بما يقال، كان يحدث أحيانا بأن تغني امرأة مقطعا موسيقيا و هكذا ينتشر هذا المقطع في حينا. لقد شهدت أمي مرتين أو ثلاثا معركات نساء حقيقية. كانت مثل تلك المواقف تعطي مجالا لاحتفالات كوميدية. طوال أسبوع،كانت أمي تظل تمثل أمام نساء المنزل، صديقات الطريق و الجارات، الشجار بمراحله المتعددة. لقد كنا نحظى بتمهيد متبوع بتقديم للشخصيات، كل واحدة بقوامها الخاص، تشوهات جسمها، خصائص صوتها، حركاتها و نظرتها. كنا نرى ولادة الشجار، نشهد تطوره، بلوغه مرحلة الذروة و انتهاءه بالأحضان أو الدموع. كانت أمي تلقى نجاحا كبيرا لدى الجارات، لم يكن يعجبني كثيرا هذا النوع من العروض. كان إفراط أمي في البهجة بالنسبة لي مرتبطا بعواقب مؤسفة. في الصباح، مفعمة بالنشاط، لم يكن يفوتها، في المساء، أن تجد سببا للخصام أو البكاء. كان أبي يعود دائما متأخرا، كان نادرا ما يجدنا في مزاج جيد. كان في معظم الأحيان يتحمل قصة حدث كانت أمي تستمتع بطلائه بأدكن الألوان. في بعض الأحيان، كان حدث تافه يتحول إلى كارثة. هذا ما حدث عندما خطرت لرحمة فكرة الغسيل المشؤومة في يوم الإثنين. لقد كان من المتفق عليه أن هذا اليوم مخصص لأمي وحدها. في الصباح الباكر، كانت تحتل الفناء، تملؤه بمعالف خشبية، بأسقية كانت تستعملها كطشوت، بدلاء للشطف و بحزم من الغسيل المتسخ. بالكاد تلبس سروال وقفطانا قديما و ممزقا، كانت تنشغل حول نار مرتجلة، تحرك محتوى السقاء بقصبة طويلة، تثور على الخشب الذي كان يعطي دخانا أكثر من الحرارة، تتهم بائعي الصابون الأسود بغشها و تلقي عليهم كل أنواع اللعنات. لم يكن الفناء يكفي لنشاطها. كانت تصعد حتى السطح، تمد حبالها، تثبتها بالاستعانة بقصب التوت، تنزل ثانية لتمزج سحبا من الرغوة. في ذلك اليوم، كانت أمي ترسلني إلى الكتاب بقميص عادي تحت جلبابي كلباس. كان الغداء بسيطا. كان يجب علي أن أكتفي بربع من الخبز مدهون بزبدة زنخة، مرفوق بثلاثة زيتونات. حتى غرفتنا كانت تفقد مظهرها المعتاد. ترقد الأفرشة هناك بدون أغطية، لم يعد للوسائد أغلفة و كانت النافذة تبدو عارية بدون ستارتها المزينة بزهيرات صغيرة حمراء.
كان المساء مخصصا لطي الملابس. كانت أمي تأخذ قميصا منكمشا جدا و تفوح منه رائحة الشمس، تبسطه على ركبتيها، تنظر إليه بإمعان، تطويه، الأكمام في الداخل، بإطباق، بضغط تقريبا. أحيانا، كانت تقوم بالغ ز ل. لم تكن تحب الخياطة كثيرا و حتى أنا كنت أفضل مشاهدتها تجر منادفها أو تدير مغزلها. الإبرة، آلة حضرية بشكل خاص، كانت تمثل في عيني رمزا للمهارة. لقد كان تقليدا في عائلتنا أن المهنة النسائية النبيلة بامتياز كانت تتجلى في غزل الصوف. كان استعمال الإبرة يعادل الإلحاد تقريبا. كنا فاسيين عن طريق حادث، لكن كنا نبقى أوفياء لأصولنا الجبلية للأسياد الفلاحين. لم يكن يفوت أمي أبدا أن تذكر أصولها عند الشجار مع الجارات. لقد كانت تتجرأ حتى على أن تؤكد أمام رحمة أننا من أحفاد الرسول الأصليين. - كانت تقول: توجد أوراق لإثبات ذلك، أوراق محفوظة بعناية من طرف إمام مسجد مدينتنا الصغيرة. من تكونين أنتي، زوجة صانع محاريث، بدون حسب، لتجرئي على نشر غسيلك، المليء بالقمل، بجانب غسيلي الحديث التنظيف؟ أعرف من أنت، متسولة من المتسولات، خادمة من الخادمات، بائسة، مجرد متغوطة و مقملة، لاحسة أطباق لا تأكل حتى الشبع أبدا. و زوجك! حدثيني عن هذا الكائن الممسوخ، ذو اللحية التي نخرها العث، الذي تفوح منه رائحة الزريبة و ينهق كالحمار! ماذا تقولين؟ سأخبر زوجي؟ هل أنا أخشى زوجك؟ فليأتي! سأريه ما تستطيع امرأة نبيلة الأصول فعله. أما بالنسبة لك، كفي عن الصراخ و اجمعي حبالك. ستشهد جميع الجارات لصالحي. لقد استفزيتني. لست فتاة صغيرة لأتعرض للإهانة من طرف امرأة مثلك. من نافذتنا في الطابق الثاني، كنت أتابع المشهد و أنا شاحب من الفزع و الخوف، بينما كانت ذاكرتي الطفولية تسجل الجمل العنيفة. في المساء، و النعاس يثقلني، سمعت أبي يصعد الدرج. دخل كما هي عادته، اتجه نحو فراشه الموضوع مباشرة على الأرض. حضرت أمي العشاء، وضعت الطاولة المستديرة، طبق اليخنة و الخبز. كنا نحس بأنها تحرد. بدأ أبي بالأكل دون طرح أسئلة.
كانت أمي لا تزال تحرد. ثم رفعت صوتها بشكل مفاجئ و قالت: - ألا يزعجك هذا، عندما يتم اغتيابنا، شتمنا، شتم أصولنا الشريفة، أجدادنا الذين كانوا يجعلون القبائل ترتجف! ألا يزعجك أن يحاول أناس من طبقة من ح طة تلطيخ، بكلام غير لائق، عائلتنا التي تشمل بين أمواتها رجالا شجعنا، زعماء، قديسين و علماء! كان أبي يتابع الأكل دون أن ينطق بكلمة واحدة. أعادت أمي: - أجل، كل هذا لا يزعجك. أن تتعرض زوجتك لكل الشتائم، لم تتأثر شهيتك و تأكل كما هي عادتك. أنا، أشعر بالكثير من وجع القلب حتى أنني لن آكل مجددا في حياتي.
أطلقت أمي عويلا طويلا و هي تخفي وجهها بيديها ثم أجهشت بالبكاء بدموع حارة. كانت تنتحب، تتأسف، تضرب فخديها بشدة، تغني بإيقاع رتيب و حزين جدا كل المآسي التي أصابتها. كانت تحصي كل الشتائم التي تلقتها، النعوت التي تم وصفها بها. تكرر بدون توقف الثناء على أسلافها الذين تمت الإساءة لهم بنفس المناسبة. بعد أن شبع أبي، شرب رشفة ماء، مسح فمه، سحب وسادة ليتكئ عليها و سأل: - مع من تشاجرتي ثانية؟ كان للجملة أثر سحري على أمي. توقفت عن البكاء، رفعت رأسها و خاطبت أبي بموجة من السخط: - لكن مع ساقطة الطابق الأول، زوجة صانع المحاريث! لطخت هذه المخلوقة المقرفة غسيلي بخرقها التي تفوح منها رائحة الزريبة. إنها لا تستحم عادة، ترتدي ملابسها لمدة ثلاثة أشهر، لكن لتفتعل شجارا، اختارت الإثنين، يوم غسيلي، لتخرج خرقها. أنت تعرف صبري، دائما أحاول تبسيط المشاكل، لا أفقد أدبي التقليدي أبدا؛ لقد ورثت هذا عن عائلتي، كلنا مؤدبون، إن الناس الذين يستفزوننا بكلماتهم الفظة يضيعون وقتهم فقط. نعرف كيف نحافظ على هدوئنا و نصون كرامتنا. كان لا بد لهذه المقملة ... انبثق صوت رحمة في الظلام. - مقملة! أنا! هل تسمعون، يا أمة المسلمين؟ لم يكفها النهار، إن الرجال موجودون الآن في البيت ويستطيعون أن يشهدوا أمام الله من منا تعدى حسن الجوار. ما حدث بعد ذلك لا يمكن وصفه بالكلمات، في البدء كانت هناك صرخات حادة و مطولة، صياحات، أصوات متقطعة. كانت كل واحدة من الغريمتين، تطل من نافذتها، تلوح في الفراغ، تقول شتائم لا يفهمها أحد و تنتف شعرها. مسكونتين بشيطان الرقص، كانتا تقومان بالتوائات غريبة. خرج الجيران و الجارات من غرفهم و ضموا أصواتهم إلى أصوات الجنيتين. الرجال، بأصواتهم الخشنة، كانوا يحثونهما على الهدوء، كانوا يصرون على أن تلعنا الشيطان بشدة، لكن هاته النصائح الحكيمة كانت تزيد من غضبهن. أصبح الضجيج لا يحتمل. لقد كانت عاصفة، زلزالا، ثورانا للقوى الخفية، انهيارا للعالم.
لم أكن أستطيع التحمل أكثر. كانت أذناي في عذاب، كان قلبي داخل صدري يلطم بقوة جدران قفصه. خنقني النحيب و انهرت على قدمي أمي، بدون وعي.
الفصل 1
Reviewed by Admin
on
septembre 01, 2019
Rating:
Aucun commentaire: